كاتبة المقال: يسكا هارني
ترجمة: عزيز بنا
منذ 800 عام تحتفل الكنيسة الكاثوليكية في يوم الخميس الذي يتلو العنصرة عيد "جسد الرب ودمه الأقدسين"، في اللاتينية Sanctissimi Corporis et Sanguinis Christi أو الاسم المختصر Corpus Christi أو Corpus Domini.
إن هذا العيد يستحق أن يكون ضمن الأعياد الخمسة التي تتصدر قائمة الأعياد الأجمل والأكثر إثارة للإعجاب... في مناطق مختلفة في العالم تُفرش الورود على طول الطرق التي يمرّ بها موكب العيد، ومواكب رهبان يحملون المونسترانس (وعاء القربان المقدس).
في بعض البلدان يقيمون طقوسًا غريبة، مثل "قفزة الشيطان" فوق الأطفال، في Castrillo de Murcia، بجانب بورجوس في إسبانيا.
في كل عام، في عيد العنصرة، تنهي الكنيسة الكاثوليكية فترة الفصح، والتي تمتد طوال 90 يومًا: 40 يومًا للصوم تبدأ بأربعاء الرماد، و50 يومًا بعد القيامة، تنتهي يوم أحد حلول الروح القدس في العنصرة. بعد هذه الفترة تنتقل الكنيسة ل "الزمن العادي".
يبدو أنه من الممكن أخذ استراحة بعد فترة الأعياد المكثّفة والدراميّة، ومن الممكن العودة لروتين الحياة، ولكن عيدًا إضافيًا قادم:
يوم الخميس، في الأسبوع الثاني بعد العنصرة – تطلب الكنيسة من المؤمنين تذكّر تقديس الخبز في العشاء السرّيّ: جسد الرب ودمه الأقدسين.
عمليًا، فإن الكنيسة تنقل الاحتفال ليوم الأحد وذلك لراحة جماعة المؤمنين. في الصورة المأخوذة من يوميّات الفرنسيسكان في الأراضي المقدسة، يمكنكم رؤية إعلان تفاصيل العيد يوم الخميس (في الأحرف الحمراء كما يليق بالعيد)، أما لجماعة المؤمنين فإن الإعلان هو يوم الأحد.
لقد أضافت الكنيسة الكاثوليكية، لأسباب عدة، "موجة" إضافية لموجات الفصح العاصفة، ففي عام 1264 أعلن البابا أوربان الرابع عن عيد جديد لتمجيد القربان المقدس: كوربوس كريستي. هذا العيد خاصٌ فقط للكنيسة الكاثوليكية (لا مقابل له في الكنائس الشرقية أو البروتستانتية)، وهو يكرّس عجيبة تحول الخبز المقدس بعد تقديسه في القداس الإلهي على المذبح، وذلك بواسطة الروح القدس. إذًا ما الهدف من إضافة عيد بعد فترة مليئة بالأعياد المخصصة لجسد يسوع، في الوقت الذي أصبحت قمة عيد الفصح من ورائنا (كلماته "هذا هو جسدي" في العشاء السرّي، موته على الصليب، قيامته، وتناوله وجبة العشاء في عماوس الذي توضّح فيها أن التعرّف على المسيح سيكون من خلال كسر الخبر)؟!
إذًا فإن السياق الزمنيّ هو المفتاح:
في القرن الثاني عشر والثالث عشر انتشرت حركات الهرطقة (المسيحيون الذين خرجوا عن تعاليم الكنيسة الرسمية) التي دعت لفهم يسوع بشكل روحاني أكثر من كونه جسدًا من لحم ودم. إن طقوس الكنيسة التي سلّطت الضوء على الجانب المحسوس – اعتبرها الهراطقة خطًأ جسيمًا، وكان ردّ فعل الكنيسة بأن أكّدت في لاهوتها الكنسيّ أنّ الخبز سيتحوّل لجسد المسيح وأن الخمر سيتحوّل لدم المسيح على المذبح (جوهر تحوّل الخبز والخمر). إن هذا التقليد القديم، تحوّل إلى حقيقة مطلقة، حقيقة علمية. سوف تفرض الكنيسة أن يُرى ذلك ويُقال بشكل واضح في الطقوس الكنسيّة: مثل عرض وعاء خاص يسمى "وعاء القربان المقدس" (مونسترانس) والذي خُصّص لتأمّل الخبز بعد تقديسه. لقد زادت الكنيسة الكاثوليكية من احتفالاتها بهذا العيد كردّ فعل على الثورة البروتستانتية التي رفضت هذا الإيمان بتحوّل الخبز لجسد يسوع الحقيقي.
إن وعاء القربان المقدس أصبح أكثر فخامة كما يمكنكم أن تروا في الصور التالية.
منذ هذه الفترة، فترة الإصلاح المضاد (القرن ال 16)، كان الملوك الكاثوليك يشتركون في طقوس العيد بشكل علنيّ، وبالتالي كانوا يعلنون ولاءهم للكنيسة الكاثوليكية.
في الصورة التالية يبدو القيصر فرانتس جوزيف راكعًا بشكل علنيّ، مع حاشيته، أمام وعاء القربان المقدّس.
إن إخراج وعاء القربان المقدس لمسيرة خارج الكنيسة خلال مسيرة عيد "جسد الرب ودمه الأقدسين"، هو نوع من "إعلان العجيبة". تدّعي الكنيسة أن كل من تأمّل القربان المقدّس بخشوع وقتًا كافيًا، يستطيع رؤية آثار الدم أو يسوع نفسه. في تلك الفترة، تطوّرت فريات الدم حيث وُصف أنه تمت سرقة القربان المقدّس من الكنيسة وتدنيسه من خلال طعنه حتى ينزف دمًا.
كيف أدخل اليهود إلى صورة هذا الصراع؟ هذا موضوع مؤلم بحد ذاته، لن نناقشه في هذا المقال.
البابا أوربان الرابع، الذي ذُكر سابقًا، جنّد أحد كبار اللاهوتيين في الكنيسة الكاثوليكية – توما الأكوينيّ (1225-1274)، بهدف تأليف ترانيم للعيد بحيث تعكس لاهوت الكنيسة. وقد ألّف فعلاً توما، الراهب الدومنيكيانيّ، الفيلسوف وساحر الكلمات، عدّة ترانيم للعيد تُعتبر من أجمل الترانيم اللاتينية والتي ما زالت تُرنّم إلى يومنا هذا.
"تغنّ يا لسان" / PANGE LINGUA تُعتبر إحدى أشهر الترانيم التي كتبها. انتبهوا كيف يُقال في إحدى أقسام ترنيمة "فلنوقّر باحترام" TANTUM ERGO، أن مقابل حواس الإنسان المرتبكة (أي ما يبدو أنه خبز، وطعمه خبز، وملمسه خبز- ليس خبزًا بل جسد المسيح) = وحده الإيمان هو المفتاح، فإننا نتحدّث عن سرٍمهيب:
ومن أجل هذا نُجلّ هذا العشاء الربّانيّ العظيم ونحن سُجَّد؛
ألا فلتُخلِ الطقوس القديمة مكانها لهذه الشعيرة الجديدة،
ولينجِ إيماننا عجز حواسّنا المظلمة.
في الترنيمة المسمّاة "لك أجثو خاشعًا" ADORO TE DEVOTE يعود توما على ذكر ارتباك الحواسّ ويكتب:
(استمع من الدقيقة الأولى في الرابط):
ضَلَّ طَرْفي ثُمَّ لَمْسي وَذَوْقي
فيكَ سَمْعي نالَ كُلَّ اليَقينِ
Visus, tactus, gustus in te
sed auditu solo tuto creditur;
من المحتمل أن تكون الترنيمة التالية هي أيضًا من إبداعات الأكوينيّ، وسوف تكون مألوفة لكم أكثر:
خبز الملائكة = PANIS ANGELICUS مقتبس من ترنيمة SACRIS SOLEMNIS.
(رابط للاستماع)
من الشيّق أن نعرف كيف كانت ستكون ردّة فعل توما الأكوينيّ، الذي استمع للجموع ترنّم في اللغة اللاتينية، أن يستمع لترانيمه في اللغة العربية! إليكم مقطع فيديو من عيد "جسد الرب ودمه الأقدسين" للطائفة الكاثوليكية في بيت حنينا، شماليّ القدس.
في الدقيقة 8:00 سوف ترون كيف يُدخلون القربان المقدّس للوعاء ومن الدقيقة 11:30 يمكنكم مشاهدة المسيرة بمرافقة ترانيم توما الأكوينيّ في اللغة العربية.
بجع عيد "جسد الرب ودمه الأقدسين"
في البيت السادس من ترنيمة "لك أجثو خاشعًا" (استمع في الرابط التالي، من الدقيقة 3:30)، يكتب توما الأكوينيّ في اللاتينية عن يسوع بأنه طائر البجع وبدمه يُخلّص الخاطئ:
Pie pellicane, Iesu Domine
me immundum munda tuo sanguine
cuius una stilla salvum facere
totum mundum quit ab omni scelere
ومن المثير جدًا أن رمز طائر البجع قد حُذف في الترجمة العربية، قد يكون ذلك بسبب عدم معرفة أهل البلاد بهذا الطائر، أو قد يكون بسبب ضرورة اللحن والوزن الشعريّ، على كل حال هذا موضوع شيّق للبحث ويحتاج مقالاً منفصلاً:
إِبْقَ رَبّي دائِماً طُهْرَ نَفْسي
بِالدَّمِ المَسْكوبِ فَوْقَ الصَّليبِ
مِنْها تَكْفي قَطْرَةٌ فَهْيَ تَشْفي
كُلَّ ذَنْبٍ مِنْ جَميعِ الشُّعوبِ
من أين أتى طائر البجع ولماذا استُعمل تشبيهًا ليسوع؟!
أسطورة من القرون الوسطى، تحكي أن طائر البجع يعتني بصغاره ويعيلهم من خلال طعن نفسه، ومن دمه النازف يتغذّى صغاره بل يقومون من الموت!
قد يكون مظهر البجع يُطعم صغاره، يبدو وكأنهم يأكلون لحمه، وبالتالي فإنه يبدو "مضحّيًا" بنفسه من أجلهم:
إن البجع اعتُبر رمزًا للرحمة، التضحية والإخلاص للآخر، وأصبح رمزًا في جميع أصقاع الأرض، دون فارق بين القارات، الحضارات والانتماءات الكنسيّة. في الولايات المتحدة مثلاً، اختارت ولاية لويزيانا طائر البجع الذي يُطعم ثلاثة من صغاره وثلاث قطرات دم ليكون علم الولاية ورمز الإخلاص لها.
في كامبريدج – إنجلترا أقيمت في القرن الرابع عشر جامعة تحت اسم "كوربوس كريستي" (على فكرة فإنها أقيمت بسبب وباء...). رغم أن انجلترا قد انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية، لكن بقيت الجامعة الأنجليكانية، ذات الاسم الكاثوليكي هذا، وبقي رمز الجامعة – طائر البجع وقطرات الدم الساقطة على صغاره. في الصور التي أمامكم قد صوّرتها عند زيارتي لكامبريدج:
طائر البجع في القدس:
لو كنت أحضّر كتالوج عن تمثيل البجع كرمز مسيحي في العالم، كنت سأجد مئات الصور، من ثم كنت سأركّز بحثي في القدس، تلك المدينة التي ضحّى فيها "البجع الحقيقي" بدمه، كما يقول توما الأكوينيّ.
في هذه المرحلة من البحث عن طائر البجع في القدس، اكتشفت أنه يوجد ما لا يقل عن عشرين كنيسة، من مختلف الطوائف، معروض فيها طائر البجع.
ها هو لدى الكاثوليك، في فسيفساء الجلجثة:
وفي النقش الموجود على المذبح في "مصلّى الإفرنج" في كنيسة القيامة:
وهو منقوش كذلك على الأثواب الليتورجية للكاثوليك:
الكنائس الشرقية ايضًا، داخل كنيسة القيامة، تحب استعمال رمز طائرالبجع: هنا نراه على باب خشبي في الكنيسة الأرثوذوكسية وأيضًا داخل فسيفساء أرضيةٍ أرمنية:
(أين؟ إنها أحجية لمن يحب الاستكشافات).
لم يتنازل البروتستانت بدورهم أيضًا عن طائر البجع، وأمامكم مثالين لنقوش حجرية-
في كنيسة مستشفى "أوغوستا فيكتوريا" اللوثرية وفي جمعية الشبان المسيحيين في القدس:
غرفة العشاء الأخير في القدس والرمز الجديد:
يسوع بشخص طائر الفلامنجو!
إن التمثيل الأقدم المعروف لنا في الأراضي المقدسة لطائر يُطعم صغاره كرمزٍ ليسوع، يعود إلى الفترة الصليبية وموجود في غرفة العشاء الأخير.
على رأس عامود صليبي مصنوع من الرخام، نُقشت صورة طائر ذي رأس بارز. هذا الطائر يمتاز بمنقار مختلف عن منقار طائر البجع. إنه منقار معقوف – إنه منقار طائر الفلامنجو!
طائران عن يمينه وعن يساره، ينحنيان نحوه ويطعنان صدره بمنقارهما. لهذين الطائرين (صغاره؟) منقارين لا يُشبهان منقار البجع، لكنه أشبه بمنقار الفلامنجو. في أسفل النقش، عند أقدام الطيور، نُقشت شخصيات لم يتمّ التعرّف عليها، لكنها تُمثّل شيئًا سلبيًا.
ما المغزى من ذلك؟
إن الطائر الذي يتوسط النقش، يهب حياة للآخرين. أولئك الذين يمتصّون دمه، يحصلون على الحياة ويستطيعون التغلّب على الشر الذي عند أقدامهم.
أليست هذه هي نفسها رسالة يسوع الذي ضحّى بنفسه كما جاء في العشاء السرّي؟
علم الطيور، يُعلّمنا، بعكس الأسطورة، أن طائر البجع لا يُطعم صغاره دمًا. كما ترون في الصورة، فإنه يُطعم صغيره من كيس جلديّ في أسفل منقاره سمكًا اصطاده.
إذُا من أين أتى تشبيه طعام ما بالدم؟!
إن الربط بين قطرات الدم وطائر الفلامنجو يأتي من عالم علم الطيور.
أولاً:
ريش الفلامنجو يميل إلى الحُمرة (أو الزهريّ) وذلك لأن غذاء الفلامنجو غني بالبيتا كاروتين.
ثانيًا، وهو الأهم:
ذكر الفلامنجو، كما الأنثى، يطعم صغاره سائلاً أحمرًا يُنتجه في الغُدد. هذا الحليب الأحمر عني بالدهنيات، البروتينات، وخلايا الدم البيضاء والحمراء. إن لون ريش الفلامنجو يبدو "شاحبًا" أمام اللون الأحمر الداكن للسائل الذي يُخرجه الطائر من منقاره...
إن أمعنتم النظر في الصور التالية وفي الفيديو التالي قد تقتنعون باعتقاد الناس في القرون الوسطى:
فضولية:
في العام 1900 اكتشف عالم الأحياء بروفيسور Karl Landsteiner (يهودي أصبح مسيحيًا) طريقة حديثة لتصنيف الدم، وبعد فترة اكتشف عامل ال RH وحظي بجائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا) والطب. إن صورته مطبوعة على ميدالية خاصّة والتي تُعطى لأشخاص تبرعوا بالدم مرًات كثيرة. خمّنوا ماذا يوجد من الجهة الثانية للميدالية؟ إليكم الإجابة...
تجربة شخصية: احتفالات عيد كوربوس كريستي وترنيم هللويا في Genzano في إيطاليا.
في عام 2019 شاهدت احتفالات كوربوس كريستي الجميلة والممتعة، في بلدة جنزانو في منطقة Casteli Romani التي تبعُد مسافة ساعة عن روما. كنت مع مجموعة من سكان الجليل الغربي، وقد أتينا لرؤية تحضيرات العيد والاحتفالات.
وصلنا عن طريق الخطأ إلى البلدة قبل العيد بيوم، وقد شعرنا بخيبة أمل عندما اكتشفنا أن الزينة المشهورة لم تكن جاهزة بعد. لم تكن هناك ورود على الشارع حيث سيسير كاهن البلدة ومطران المنطقة في المسيرة الاحتفالية حاملين وعاء القربان المقدس.
مع أن الشارع الذي يخرج من الكنيسة باتجاه الكاتدرائية مغلقًا، ومُحاطًا بحواجز، لكن كانت هناك رسومات من الطبشور على أرضيته حيث سوف يزينها أهل البلدة بالزهور خلال الليل البارد.
لقد عوّضنا قليلاً لقاء كاهن البلدة، الأب ماركو، في الكنيسة التي على الجبل. بفضل مترجم كان معنا في المجموعة (وماركو أيضًا!)، كان لنا حديث ممتع جدًا. عند الوداع رنّمنا سويّة هللويا.
إن القرار لتغيير مسار الرحلة كي نعود إلى جنزانو في اليوم التالي كان قرارًا صائبًا، فقد كانت تجربة مثيرة جدًا. بعض الصور التي أمامكم تُظهر جمال هذا العيد. الأب ماركو لم ينسنا، واستقبلني بابتسامة واسعة ممثّلة عن المجموعة قبل الخروج للمسيرة بلحظات.
لقد خرج القربان المقدس داخل الوعاء مُظلّلاً بشمسية منسوجة، حمله من أعلى الجبل الأب ماركو. لقد مشى هو وحاشيته على غمار الورود التي زُينت بها الطرقات في الليلة السابقة، وقد باركوا الجموع والبلدة بالقربان المقدس، هكذا إلى أن وصلوا ودخلوا الكاتدرائية، حيث وُضع القربان المقدس على المذبح، ومن ثم أُعيد إلى مكانه في الكنيسة -بيت القربان.
عند نهاية المسيرة التي امتازت بجو من السعادة والتقوى معًا، بقيت الورود مبعثرة في كل جانب، وبعض المحليين الذين احتفلوا في أكشاك الشرب والأكل والهدايا.
مع انتهاء هذا العيد تنتهي فترة الفصح. في عيد "جسد الرب ودمه الأقدسين" لسنة 2020، أراني أفكّر في بلدة جنزانو، الأب ماركو الرائع، ترانيم هللويا التي رنّمناها من أجله، نحن اليهود من بلد يسوع، هو ال "البجع الحقيقي".
Comments